موطن آلهة الجَمَال "أفروديتْ"
"قبرص"
في مطلع نيسان، من العام 1985، والطبيعةُ تُولدُ من جديد وتتبرَّج بالأزاهير والرياحين والورود، والناسُ في "لبنان" يتقاتلون، والحرب فيه قائمة على قدمٍ وساق، بين جماعةٍ طمَّاعةٍ أنانيّةٍ مستعليةٍ متكبرّةٍ، ضاربة على أوتار الدين الرنَّانة المؤثّرة على العقول المتحجّرة، تريد الاستئثار بخير هذا الوطن الصغير، والهيمنة عليه، وبين جماعاتٍ أخرى تأبى عليها كرامتُها، أن ترضخَ لغير العدالة والمساواة بين أناسيّ البلد الواحد، امتطيتُ متن الهواء بطائرة متوجّهة إلى "لارنكا" القبرصيَّة التي بلغناها بعد عشرين دقيقة من بدء الإقلاع؛ والرحلة الوجيزة هذه لم يكُ الباعث إليها خوفٌ من رصاصةِ قناصٍ شرّير أو جَزِعٌ من قذيفة يقذفُ بها حاقدٌ لئيم، من غير المتعذّر أن تَهْويَ فوق سطح بيتنا، أو فَرِقٌ من دمدمتِها المدمّرة للكثير من الأعصاب؛ ولم يكن بهدف دعوة كالتي جاءَ من أجلها الشيخ "أمين عوّاد"، رئيس الاتّحاد المارونيّ العالميّ، داعيًا موارنة "قبرص"، وهم في هذه الجزيرة منذ عهدٍ بعيد، قد يعود بعضهُ إلى زمن الحروب الصليبيَّة، لخدمة القضيَّة المسيحيَّة في "لبنان" الجريح، ولا لتوفير ملجأ فيها نهرعُ إليه في وقت المحنة والشدائد والتأزّم، كما فعل العديد من كبار اللبنانيّين، المسؤولين عن الشرعيّة وغير المسؤولين الموسرين، وليس لأنّها جزيرة جميلة، وتكوينها الجغرافيّ جزء من تكوين "سوريا" الطبيعيّة - وقد ألحقها الأخوان في الحزب السوريّ القوميّ بالهلال الخصيب، باعتبارها نجمةً له - بل كان الداعي الأساسيّ إليها زيارة أهلٍ طال غيابهم عنّا.
حطَّت الطائرةُ الناقلة للمئات من البشر، المتنوّعي الجنسيّات، الآتين إلى هذه الجزيرة، القريبة مساحتها من مساحة لبنان، والمشتهرة بجمالها الطبيعيّ وبكونها الجزيرة التي اختارتها، كما تروي الأساطير، "أفروديتْ" إلهة الجمال والحبّ، عند الإغريق، (فينوس الشعوب اللاتينيَّة)، إمّا هربًا من قصفٍ مدفعيّ أو صاروخيّ مجنون، يقصفُ العمر أو للانتقال بطائرة أخرى إلى مكان آخر هادئ، في بسيطة هذا الكوكب الأرضيّ، سعيًا وراء رزقٍ، ضاقت سبله في بلدٍ يحترب فيه معظم أهليه.
عامل الأمن في مطار "لارنكا": لا سلام ولا كلام!
كان أوّل ما بادرني موظّف الأمن ذو الوجه الكالح، عند مراقبة جواز السفر، بالسؤال الجافّ: كم دولارًا معك يا هذا؟! إنْ لم يكُ لديك نقدٌ نادر وفير، فلن يُسمحَ لك بالمَكْثِ طويلًا في جزيرتنا، أو العمل المأجور فيها، نمنحك مهلة أسبوع لا غيرُ! قال كلمته بلهجة ناشفة تخدّشُ شعور الإنسان، أيَّ إنسان! وعبثًا حاولتُ إقناعه بتمديد هذه المهلة، والتأكيد له أنّ ما لديَّ من مال، يكفيني لأبقى ردحًا من الزمان مهما طال، سوى أنَّ كلامي كان كصرخة في وادٍ، لم يأبه له، ورضختُ للأمر الفجّ، وتذكّرت "لبنان" والطائرين إليه من كل حدبٍ وصوب، من شماليّه وشرقيّه وموانىء بحره، كبيرها وصغيرها، ممّن معه نقدٌ نادر وممّن لا يملك شروى نقير، ممّن يأتي للارتزاق أو لحمل السلاح، مأجورًا يقتنص الأبرياء ويَقضُّ مضاجع الآمنين، حتّى في عقر دُورِهم، ولكن آثرتُ مصائبَ بلادي والعيشَ فيها، على بلدٍ يُقاس المرء فيه بما يملكُ من نقدٍ نادر وحسْبُ، وحدّثتُ نفسي مردّدًا لها ما قال شاعر حكيم يومًا:
بلادي، وإن جارتْ عليَّ عزيزةٌ وأهلي وإنْ ضنُّوا عليَّ، كرامُ
نعم، هذا ما شعرت به إزاء ما طرق مسمعي؛ والموطن الذي أبصر فيه ابنُ آدم النورَ، ودرج وتربّى على ما فيه من تخلّفٍ وقهر وجور ومآس وتجاوزات تطبع ساكنيه بطابع التوحّش والذئبيَّة أحيانًا، هو وحده موئل العيش الحرّ ومصدر الكرامة والاعتزاز.
ليماسول- Limassol
هذه الإسْكِلَةُ "لارنكا"، التي كانت مهربًا لطائراتنا اللبنانيّة يوم كان يُقصف مطار عاصمتنا، هرع إليها آلافٌ من اللبنانيين، ليقطنوها أو لينكفئوا منها ويتوزّعوا إلى سائر البلدات القبرصيّة، لم أَنِ أَنْ غادرتُها إلى حاضرة أخرى، تقع إلى الجنوب الغربيّ منها، هي مدينة "ليماسول" البعيدة حوالي خمسين ميلًا عن المرفأ الجويّ، وهي أهمّ مرفأ بحريّ وقاعدة للتجارة وللصناعة القبرصيَّة، خاصّة صناعة الخمر، وأكبر مدينة، بعد العاصمة "نيكوسيا"، ذات الآثار القديمة، يعود وجودها إلى ما قبل النصرانيّة والقرون الأولى بعدها.
في هذه المدينة، التي تسكنُها، موقّتًا، عائلة ولدي "إياد"، حططنا الرحال، وجعلنا منها منطلقًا لتجوالنا في سائر حواضر الجزيرة وبعض أرجائها؛ فيها العديد من الأسَر اللبنانيّة، المسيحيّة والإسلاميّة، التي تعيش في وئام، تخالها كأنّها أسرة واحدة كبيرة، لا يفرّق عناصرها اختلاف الدين أو المذهب الذي يدعو في الأساس، إلى المحبّة والألفة والتعاون بين البشر، فيها المالك للمنزل الذي يقطنه وفيها المستأجر؛ وبدل إيجار السكن معتدل، قياسًا لإيجار سكن "بيروت"، وقد ازدهرتْ "ليماسول"، عمرانيًّا واقتصاديًّا، كأكثر باقي المدن، بفضل اللبنانيين وسواهم من أبناء العرب، ويؤمُّها أيضًا الآلاف من شعوب "ألمانيا" الغربيّة و"الدانمرك" و "الإنكليز" وغيرهم من سكان "أوروبا" الشماليّة للاستجمام والاستحمام في شطآنها الرمليّة المشمسة الدافئة، والمزيَّنة بشجر الميموزا، الظَلِيل الرائع الزهر الأصفر، والصنوبر غير المثمر، وتمضية فصل الربيع في فنادقها الجميلة الفخمة المنتشرة على قسمها الشرقيّ.
وأهمُّ ما لفت نظري في هذه الأسكلة التجاريّة الصناعيّة السياحيّة، انضباطُ السير، فلا زمامير سيّارات ولا تجاوزَ إطلاقًا؛ الكلّ يجري في صفّ واحد، يتوقّف عند الضوء الأحمر وينطلق عند الضوء الأخضر، التزاحم منعدم بتاتًا، والنظافة في أوْجها، فلا قشرة موز أو فول أو ليمون ترى فوق أديمها، من الممكن أن تسبب انزلاقًا، يؤدّي إلى رضٍّ أو كسر في ساق أو ورك، كما حصل كثيرًا في شوارع "بيروت"؛ والنفايات، كما رأيتُ، تُجْمَع في أكياس أو براميل تُقفل أفواهها؛ ومعظم بيوت المدينة مؤلَّف من طابق أو طابقين، الأوّل منهما محاوط بحديقة، وتندر ناطحات السحاب فيها، وترى فوق السطوح آلافُ السخَّانات الشمسيّة، وهي كناية عن ألواح زجاجيَّة مستطيلة، ذات خاصيّة لاستيعاب الحرارة، لكلّ منزل سخَّانةٌ يتّصل ماؤها الساخن بمطبخه وحمّاماته ومغسلاته، ممّا يوفّر مصروفًا في الكهرباء والمحروقات الغالية الثمن. أمّا عن الأمانة والأمن فحدّث ولا حَرَج: ففي الحيّ الذي نقيم فيه، أرصفة تزيّنها الورود والرياحين التي تُبهج العيون وتُفرح الأفئدة وتبعث على البسمة وانبساط الوجه، ولا أحد من المشاة يحاول مسَّها أو يكدّر بهاءَها، وتظلّلها أشجار الليمون والأكيدينا المثقلة بالثمار المتدلّية عناقيدَ عناقيدَ، ناضجة شهيّة، تنحني تحتها رؤوس المارّة، الذين ينظرون إليها بإعجاب وبدون أن يقطفوا ثمرة منها، على إغرائها للنفوس؛ ولو كانت في "بيروت" لأتوا عليها وعبثوا بها وقطفوا، وازدردوها غير عابئين بحقّ أصحابها وبقوانينَ تحميها، وهذا برهان على سموّ في التربية المدنيّة التي يفتقر معظمنا إليها، والأمانة هذه لا تنحصر فيما ذُكر وهو مُغْرٍ، بل تشمل المساكنَ التي يتركُ ساكنوها أبوابها مفتوحة، كما قيل لي وأكّد، بدون وجل من سارق تمتدُّ يده إلى أشيائها، وخُيّل لي كأنَّ قبارصة الثغر هذا، تعلَّموا ما قاله ذات يوم رئيس "لبنان" "سليمان فرنجيّة"، مبشّرًا الناس بغدٍ سعيد هادئ، سوف يتركون فيه بوَّاباتِ بيوتهم غير مغلوقة، وتألَّمتُ نفسيًّا ممّا آلت إليه حالنا، نحن اللبنانيّين، ولهذا التفاوت في السلوك بيننا وبين هؤلاءِ القبارصة الذين كنّا نعدُّهم متأخّرين عنّا ونحسبهم مثالًا للسذاجة أو لما يقرب من البلاهة، وتذكّرتُ نكتةُ "الخازني" الذي قصده رجل دين ذات مرةٍ، يتوسَّل إليه حتّى يتوسّط لدى مطرانه، الذي قرّر نقله، من دون إرادته، من "جبل لبنان" إلى "قبرص"، حيث جالية مارونيَّة مستوطنة بعض قراها، فقال "الخازني" هازلًا:
يا سيّدَنا، ألا تعلم أنَّ أمثالَ هذا الرجل الدينيّ يُؤتى بهم من "قبرص"! فضَحك سيادة المطران وأنال صاحبَ الالتماس مبتغاه!
وعرَّجنا ذات صباح على أسواق الخضار والسمك والتموين في المدينة، فرأيناها مزدحمة بالبشر، رجالًا ونساءً، وخلنا أنفسنا في أسواق "بيروت"، قبل أن دمّرتها الحرب الأهليّة البشعة، ضجيج وأصوات الباعة تنادي على الحاجات والسمك الطازج، باللّسان اليونانيّ الوحيد، وأناسٌ يتحركون ببطء مرّة وبسرعة مرّة أخرى، ذهابًا وإيابًا، سحنهُم سمراء شرقيّة، وبعضهم يرتدون سراويل، يكادُ بحرها يلامس الأديم، عاليةَ السيقان، ويعتمرون لبّادات كالتي يعتمرها بعض فلّاحي أو مُكاري "جبل لبنان"؛ وهناك شوارعُ ضيّقة وزواريب كزواريب سوق "البازر كان" و"أبو النصر" و "سرسق" وغيرها من أسواق بيروت القديمة، قبل أن أزالت معالمها النكبةُ. أمّا أسعار الحاجيات والأشياء فغالية جدًا، بالنسبة للُّبنانيّ الذي تدنّت عملته، والذي عليه أن يشتريها بالليرة القبرصيّة التي يتراوح سعرها ما بين 25 و 27 ليرة لبنانيّة، و "ليماسول" هذه، أهمّ مدينة تجاريّة في الجزيرة، استيرادًا وتصديرًا، وأكثر ما تصدّر، إلى مختلف أرجاء الأرض، الخمر الطيّب والعنب الشهيُّ الفاخر واللبن والجبن.
وفي الآحاد ومواسم الأعياد تشاهد الكنائس، وهي أرثوذكسيَّة، تغصُّ بالمصلّين والمصلّيات، المؤمنين والمؤمنات، والأخيرات تراهنَّ حاملات الشموع يُضئْنها وفاءً لنذور، بينهنّ لبنانيّات، وهنّ شديدات التديّن وَرِعاتٌ، إلّا أنّ هذا التديّن والورَع، وهو فضيلة دينيّة، غير مشوب بروح التعصّب الذَميم، المستشري لسوء الحظ، في معظم لبنان، أو مقرون بكراهية من ليسوا من دينهنَّ أو مذهبهنَّ، كما تأكّد لي ممّن اتّصلت بهم، وكما أكَّده مَنِ اتّصلوا بهنَّ وعاشروهنَّ ردحًا طويلًا من الزمن، وهنّ ورجالهنّ يكرهون الأتراك، ليس لأنّهم مسلمون بل لأنّهم آزروا مسلمي جزيرتهم في سياسة تقسيمها إلى قسمين في العام 1974.
قسم شمالي شرقي مساحته 38 % من مساحة الجزيرة، التي تقارب مساحة "لبنان"، يحكمه قبارصة مسلمون، وقسم جنوبيّ غربيّ، يساوي 62 % من مساحة الجزيرة، ويقطنه قبارصة يونانيّون أرثوذكس؛ وهؤلاء تائقون إلى توحيد جزيرتهم الجميلة، وغيرُ راضين إطلاقًا عن الأمر الواقع، ولا يحبّون الأمريكان، لأنّهم ناصروا الأتراك وانفصالييّ الجزيرة، الذين منحوهم، بعد نكبة التقسيم، قاعدةً عسكريّة في جوار مدينة "كيرينْيا"، الواقعة على الشاطئ الشماليّ، وكان المطران "مكاريوس" رئيس القسم القبرصيّ اليونانيّ، قد رفض بعنادٍ، مثل هذا المنح الذي لم تشجعه "إنكلترا"، التي أبقت لنفسها بعد الاستقلال، قاعدتين عسكريّتين، في ساحل الجزيرة الجنوبيّ، فانتقم منه حكّام "واشنطن"، لذلك ولأسباب أخرى، وعاونوا على تقسيم الجزيرة مؤثرين سياسة القبارصة الأتراك المسلمين، على سياسة القبارصة اليونانيّين المسيحيّين، انسجامًا مع مصالحهم واستراتيجيَّتهم، ضاربين بالمبادىء الإنسانيّة وحقوق الإنسان والحرّيّة، التي يدّعون تقديسها، عرض الحائط، كما تصرّفوا، من قبلُ، مع "إسرائيل" التي ناصروها وأمدّوها بالمال والسلاح، في ظلمها وباطلها، و"مكاريوس" هذا، كان رجلًا وطنيًّا يأبى التعدّي والظلم، فلم يساير قادة "البيت الأبيض" في استهزائهم بحقوق الضعفاء، وامتهانهم الحقوق "الفلسطينيّة" العربيَّة، ولم يسرْ في ركابهم، وخاصم سياستهم المتصهينة الجائرة، ولم يعترف بدولة البغي، كما اعترف "السادات" بها، وناصر العرب في قضيَّة "الشرق الأوسط" قضيّة "فلسطين"، أكثر مما ناصروا هم، هذه القضيّة.
وكلّما ولجت منزلًا في "ليماسول" تُبصر فيه تمثالًا صغيرًا، أو صورة لذاك الرجل الكبير، الذي ناضل حتّى نالت الجزيرة استقلالها، في سنة 1959، وتحوَّلت إلى جمهوريّة في العام الذي تلا، بعد أن كانت مستعمرة للتاج البريطانيّ، ابتداءً من العام 1925، بعد اندحار السلطنة العثمانيّة التركيّة في الحرب العالميّة الأولى، مع اندحار حليفتها "ألمانيا". وأهمّ جادّة في هذا الثغر هي التي تخترقه من شرقيّه إلى غربيّه، وفي سائر الثغور والمدن، مثل العاصمة "نيكوسيا" و "بافوس" و "لارنكا"، تحمل اسمه، تكريمًا وتخليدًا لذكراه، ليس بسبب مئزره الكهنوتيّ، بل لجرأته في نصرة العدل ومحاربة الظلم والاستعمار والكفاح من أجل الحرّيّة والكرامة الإنسانيّة.
يوسف س. نويهض